إذا أنهيت مهمتك وتخرجت من الجامعة لتجد نفسك متورطاً في اختصاص لا يشبهك ولا يناسبك. فخفف عن نفسك اللوم، لأن جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتق النظام التعليمي السوري. الذي يفترض أن من مهامه إعداد المدرسة لترشد الطلاب نحو إدراك مكامن قدراتهم ومعرفة ما يناسبها.

أحد واجبات المدرسة مساعدة كل طفل على معرفة القدرات والمهارات التي يجيدها والتي يفتقدها. سواء اجتماعياً وعقلياً وبدنياً، وذلك ليدرك عندما يغدو شاباً نمط الوظائف التي تناسبه فيسعى إليها ويزيد من فرص نجاحه.

فلا يُراد لأحد، مثلاً، أن يُنفق السنوات الخمس في دراسة هندسة العمارة ليُجبر مع أول مشاريعه على التخلي عن المهنة لأنه وجد أنه يفتقد مهارة العمل تحت الضغط الكبير، والتي هي مطلوبة في هذا المجال.

نجاحنا الدراسي دليل كفاءتنا، ونجاحنا العملي دليل كفاءة المدرسة.

يتحقق ذلك الهدف من خلال أساليب تعليم تراعي الفروقات الفردية للطلاب فتسمح للمناهج بالتماهي مع الطلاب كلٌّ وفق سماته وتفضيلاته الخاصة. حيث يتم التركيز مع كل طالب وفق ما يتميز به لتنمية هذه المهارات أكثر فأكثر ليتكامل معها. كأن يتخصص بعلم ما فيستفيد منه كمصدر دخل، ويفيد هو بدوره هذا العلم والمجتمع بأبحاثه.

ومفهوم الفروقات الفردية، لا يقتصر على التباين بين الأفراد، بل يشمل أيضاً تباين القدرات لدى الفرد نفسه. فبروز الضعف بمهارة أو جانب ما، لا يعني بأي شكل من الأشكال الضعف ببقية المهارات والجوانب. ولعل أوضح دليل على ذلك هو قصة البريطانية (آن براون) التي عانت من عسر القراءة ولم تتعلمها إلا في عمر الثالثة عشرة. لتنطلق بعدها إلى نيل شهادة الدكتوراه وتقديم إسهامات بالغة الأهمية في علم النفس التربوي.

مهمة المدرسة في هذه المسألة لا تتوقف عند حد إظهار واقع القدرات وتنميتها. بل يجب أن تُعرِّف الطلاب بالمهارات المطلوبة لكل مجال ومهنة، ليكون الاختيار على بيّنة. فقوي الحجة يمكن أن ندعوه للتفكير بمهنة المحاماة، ولكن إن كان يفتقر لطلاقة اللسان وحسن التعبير فقد تصبح تلك دعوة للفشل.

ولكن يبدو أن النظام التعليمي السوري ما زال غير مدرك لمدى أولوية هذا الهدف وطريقة تحقيقه. على الرغم أن وزير التربية الأسبق الدكتور “محمود السيد” أقر بذلك حين ذكر في أحد أبحاثه ركائز التعلم لجاك ديلور “تعلم: لتعرف، ولتعمل، ولنتعايش معاً، ولتكون”. ومن ثم أشار إلى أن النظام التعليمي السوري لا يتعامل في أغلبه إلا مع ركيزة تعلم لتعرف.

لأن أرباب الأسرة تعلموا بالمدرسة، هذا يعني أن مستوى نجاحهم التربوي غالباً مرتبط بكفاءة المدرسة

المجتمع مدرك لحقيقة أن العملية التعليمية بمختلف مفاصلها تحتاج الكفاءة والوعي العميق. وبما أن الكفاءة اللازمة من الصعب أن تتوفر في معظم الأسر، أَوكل المجتمع بهذه المهمة للمدرسة. أي أن الأسرة غير ملزمة بالعمل على تحقيق هذه الأهداف وبذلك هي معفاة من المسؤولية وبريئة من هذا التقصير. خاصة وأن للمدرسة نفسها دور في تحديد مستوى كفاءة ووعي الأسرة. لأن أرباب الأسرة تعلموا بالمدرسة، ما قد يعني أن مستوى نجاحهم التربوي غالباً مرتبط بكفاءة المدرسة التي تخرجوا منها أو النظام التربوي التعليمي فيها.

وفي الواقع المسألة ليست مرتبطة بالكتب المدرسية ومحتواها بقدر ما هي مرتبطة بأسلوب وطريقة التعليم والأنظمة التعليمية. ولنا في فنلندا التي لها سمعة طيبة فيما يتعلق بأنظمة التعليم مثال.

بحسب الوكالة الوطنية الفنلندية للتعليم، فأحد مبادئهم هو (التعليم باللعب) والتعليم بكافة مراحله مجاني. كما أن التعليم الأساسي إلزامي. وبما أن لديهم شروط واختبارات صارمة لاختيار المدرسين، يصبح للمدرس الحرية في طريقة وأسلوب التدريس.

وفيما يخص المناهج، فإلى جانب المواد الإلزامية التي من ضمنها الحرف والأخلاق، توجد مواد اختيارية وفق رغبة الطالب. وعلاوة على ذلك يتم تعليم المهارات والكفاءات مثل: التفكير، والتعلم، والتفاعل، والتعبير عن الذات، وكفاءة الحياة العملية وريادة الأعمال.

ويحق لجميع التلاميذ الحصول على التوجيه والدعم الفردي أثناء التعلم. مثل تعديل بعض المواد وفق حاجة التلميذ، أو حصص تعليم إضافية. كما أن المدرّس يستخدم مع كل تلميذ التغذية الراجعة من خلال تقديم معلومات حول أداءه تتضمن أخطاءه ومقدار تقدمه نحو الهدف المنشود.

يحق لطلاب المرحلة الثانوية انتخاب مجلس طلابي للتعبير عن آرائهم ورغباتهم وطلباتهم لدى الإدارة والضغط عليها.

ويحق لطلاب المرحلة الثانوية انتخاب مجلس طلابي للتعبير عن آرائهم ورغباتهم وطلباتهم لدى الإدارة والضغط عليها.
والامتحان الوطني الوحيد في فنلندا هو امتحان الشهادة الثانوية ويتألف من أربعة مواد امتحانية إلى جانب اللغة الفنلندية وهي: اللغة الوطنية الثانية (السويدية)، ولغة أجنبية اختيارية، والرياضيات، ومادة اختيارية واحدة من بين مجموعة مواد العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والدين.

وبعد ما سبق ذكره لا حاجة للمقارنة المفصَّلة مع نظام التعليم السوري لتبيان حجم التعقيد لدينا. فيكفي أنهم يهتمون بالحِرف ومهارات العمل العلمي والمهني منذ المرحلة الابتدائية ليتضح فارق الاهتمام بالنجاح العملي للطلاب بين البلدين.

وبخصوص العواقب، فالاختيار الخاطئ لمسار الحياة العملية يضع صاحبه بين أمرين، إما العودة من نقطة الصفر أو إكمال الحياة بعمل غير مناسب. وهذا ما قد يتسبب بانخفاض كل من العائد المادي ومستوى الرضا الوظيفي بكل تبعاته السلبية.

وفق دراسة أجراها الباحث في علم الاجتماع بجامعة ولاية أوهايو (جوناثان ديرلام) بالاشتراك مع أستاذه (هوي زينغ). تبين أن انخفاض مستوى الرضا الوظيفي قد يؤدي إلى تراجع درجات تقييم الصحة العقلية والإصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق والنوم. والأخطر أن استمرار حالة عدم الرضا الوظيفي لفترات طويلة قد تتسبب بأمراض جسدية أيضاً كأمراض القلب والأوعية الدموية.
وبذلك يبدو أنه من الأجدى لنا تبني نظام تعليمي أكثر ملائمة ويحقق الأهداف العصرية للتعليم. ولكن النصيحة الأهم، هي أن يتّعظ آباء وأمهات اليوم من الصعوبات التي أرهقتهم. ويحاولوا تجنيب أبنائهم وبناتهم تكرار المعاناة، بتولي هذه المهمة بدلاً من المدرسة، وزيادة أعبائه في سبيل أبنائه، وعدم انتظار التحرك الحكومي الذي قد يتأخر.

زمالة سناك سوري 2024.

أعلن في شمرا